من هو البشير متى
كان متي عشاراً (متي 10 : 3) وهو ابن حلفي (مرقس 2 : 14) إلتقى به يسوع في كفر ناحوم فدعاه: "ومضى يسوع من هناك، فرأى رجلاً جالساً في بيت الجباية أسمه متي، فقال له يسوع أتبعني، فقام وتبعه" (متي 9 : 9).
وهذا الجابي يدعى لاوي عند مرقس (2 : 14) وفي أنجيل لوقا (5 : 27) فأعتقد بعض الأقدمين بوجود شخصين مختلفين، وهكذا قال أوريجين من القدماء، ولا يزال بعض المفسرين يرون رأيه. لكن الأرجح أن النصوص الثلاثة تشير إلى شخص واحد نظراً لسياق الكلام وتطابق الرواية. ففي النصوص الثلاثة تتم دعوة الرجل بعد شفاء المقعد، ويتبعها عشاء في بيت العشار المهتدي يتخلله نقاش وأسئلة يطرحها الفريسيون وتلاميذ يوحنا المعمدان.
ومن المرجح أن أسم الرسول الأصلي هو لاوي، ويقول أيشوعداد المزوري أن الرسول غير أسمه على أثر دعوته، إذ رأى العشار ورفاقه الجدد عظم النعمة التي منحها المسيح لهم بدعوتهم، لأن أسم متي تفسيره "عطية الله"، ويؤيد تغيير الأسم في سياق الكلام إذ يقول أن الجابي "يسمى" متي، مما يحملنا على الاعتقاد بأن أسمه الأصلي لم يكن هكذا.
دعوته من قبل المسيح سنحت له فرصة جمع عدد كبير من أصدقائه: "وبينما يسوع يأكل في بيت متي، جاء كثير من جباة الضرائب والجاطئين وجلسوا مع يسوع وتلاميذه. ورأى بعض الفريسيين ذلك، فقالوا لتلاميذه: لماذا يأكل معلمكم مع جباة الضرائب والخاطئين؟ فسمع يسوع كلامهم، فأجاب: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى، فاذهبوا وتعلموا معنى هذه الآية: أريد رحمة لا ذبيحة. وما جئت لأدعو الصالحين إلى التوبة، بل الخاطئين" (متي 9 : 10 – 13). كان متي يدرك أن دعوته لم تكن إلا فعل رحمة من يسوع، فهو يعرف قدر نفسه، أنه إنسان خاطيء ويمارس عملاً يلعنه الفريسيون علناً. وبالرغم من ظاهر اللامبالاة، فأن لاوي – متي كان يشعر في أعماقه أنه خاطيء، وكان هذا الشعور يزداد ويتعمق في داخله. فلما دعاه يسوع، كانت الدعوة تحرراً وانطلاقاً ولذلك لم يتردد برهة بل تجاوب حالاً.
إن تلميح بطرس بقوله عن الأثني عشر: "ونحن فينا رجال رافقونا طوال المدة التي قضاها الرب يسوع بيننا، منذ أن عمده يوحنا إلى يوم أرتفع عنا" (أعمال 1 : 21 – 22) يدعونا إلى التفكير، فهل كان متي واحداً من أولئك العشارين الكثيرين الذين هرعوا إلى الأردن بحثاً عن التبرير؟ "وجاء بعض العشارين ليتعمدوا، فقالوا له: يا معلم، ماذا نعمل؟ فقال لهم: لا تجمعوا من الضرائب أكثر مما فرض لكم" (لوقا 3 : 12 – 13). وبالحقيقة "جاء يوحنا المعمدان سالكاً طريق الحق فما آمنتم به وآمن به جباة الضرائب والزواني" (متي 21 : 32). ليس بإمكاننا أن نؤكد إذا كان متي قد تتلمذ على يوحنا المعمدان أم لا، ونستطيع إفتراض ذلك لا غير، مع العلم أنه تجاوب في الحال مع دعوة يسوع على مثال بطرس وإندراوس ويعقوب ويوحنا. ويمكننا أن نتصور بأنه كالأربعة المذكورين كان مطلعاً على شهادة المعمدان ليسوع، وهو كالأربعة الآخرين مكث قليلاً عند الأردن وعاد إلى عمله منتظراً ظهور المسيح.
عندما إلتحق متي بيسوع لم يصبح مسؤولاً عن صندوق التلاميذ المشترك، رغم كونه أكثرهم خبرة في الشؤون المالية، بل كان يهوذا يقوم بهذا العمل (يوحنا 12 : 6) وبالتأكيد أن متي رفض رفضاً باتاً الاهتمام بالمال بعد أن أصبح ملكوت الله شغله الشاغل. لكن مهنته القديمة كانت قد تركت بصماتها في طبيعته، فهو يعرف قيمة المال، وإذا تحدث عن هذا الموضوع فلأنه خبير فيه، وأنجليه يشهد على ذلك، وسوف نتطرق إلى المشاكل المحيطة بانجيل متي، ورغم أن النص اليوناني للانجيل كتبه أحد أفراد الجماعة المنتمية إلى متي، فيظهر أن هذا الشخص أولى النصوص التي تتكلم عن المال اهتماماً خاصاً أكثر مما نلاحظه في أنجيلي مرقس ويوحنا.
الملاحظة الأولى نجدها في نقاش الفريسيين بخصوص تأدية الجزية لقيصر. فينقل لنا مرقس (12 : 25) قول يسوع: "هاتوا ديناراً لأراه" فاتوه به، أي بالدينار، وينقل لوقا (20 : 24) تفاصيل الحادث، وقول المسيح: "أروني ديناراً"، لكن متي (22 : 19) يكتب ما نصه: "أروني نقد الجزية" فأتوه بالدينار، فالموضوع عند متي ليس أي دينار، بل "نقد الجزية بالذات" وهو الدينار.
الملاحظة الثانية نجدها في النص الخاص بدفع ضريبة الهيكل التي أداها يسوع عن نفسه وبطرس، فهذا المشهد لم يذكره غير متي (17 : 24 – 27).
ومتي هو الوحيد بين الانجيليين يذكر مثل الكنز الدفين في الحقل (متي 13: 44). ومثل التاجر الذي يقتني اللؤلؤ الثمين (متي 13 : 45 – 46). وهو الوحيد أيضاً في الكلام عن العبد الذي يؤدي الحساب للملك إذ كان يطلبه عشرة آلاف بدرة متي (18 : 23 – 35).
والعمال المتفقين على العمل بدينار واحد في اليوم (متي 20 : 1 – 16). والوزنات التي وزعها صاحب المال على عبيده فأعطى لواحد خمس وزنات وللآخر وزنتين وللثالث وزنة واحدة. فكل الأشخاص الذين نلقاهم في هذه الأمثال نراهم يهتمون بالمال وبيحثون عن الكسب ثم يؤدون حساباً، بل نجد جملة صغيرة في مثل الوزنات لها دلالتها العميقة، إذ نسمع صاحب المال يقرع العبد الثالث قائلاً: "كان عليك أن تضع مالي عند الصيارفة، وكنت في عودتي أسترده مع الفائدة" (متي 25: 14 – 30). متي إذاً كان يعرف قيمة المال وطرق التصرف به، ولذلك كان يعير انتباهه إلى الملاحظات الخاصة بهذا الموضوع عندما كانت تصدر من يسوع. وليس بين الانجيليين من هو أكثر دقة من متي في أمور المال، فهو الوحيد الذي يستعمل الالفاظ الصحيحة بهذا المجال: الدرهم (متي 17 : 24)، الأستار (متي 17 : 27)، ونقد الجزية (متي 22 : 19) وهو يذكر عشر أنواع من النقود، بينما يذكر مرقس خمسة ولوقا ستة.
ولكي تكون لنا فكرة عن شخصية كاتب انجيل متي "كنموذج الانسان" نعود إلى كتاب الأستاذ أ كوروس وما يقوله في تحليل شخصية متي: "أن مؤلف انجيل متي هو إنسان دقيق جداً، وذهنيته واقعية، يضع دائماً حداً فاصلاً بينه وبين موضوعه، بارد الطبع. وهو نشيط في عمله، فقد جمع معلومات كثيرة واهتم بتنظيمها بدقة، لا يظهر نفسه حساساً، أي لا يتأثر بأي شيء ولا يقتنع بسهولة ولا يعمل تلقائياً، بل يتحرك بحذر بعد أن يعد نفسه للعمل. ومختصر القول: أنه أقرب إلى الطبع البارد، نشط وعنيد ومثابر بنظام ودقة. أنه من صنف أؤلئك الرجال الذين تلقاهم عادة في دوائر تحرير العقود أو ضريبة الدخل أو المصارف. "نكتفي هنا بهذا، وإذا سنحت الفرصة لنا لنعود مرة أخرى إلى متي، ونتكلم عن:-
متي في التقليد.