الشاعر كلاهوتيّ
تبدو فكرة الشاعر كلاهوتيّ، لكثيرين، تناقضاً في التعبير: فقد يتعاطى الشعراء الموضوعات اللاهوتيّة، لكننا لا نتوقّع أن يعبّر اللاهوتيّون عن رؤيتهم بالشعر. إذا ما كان من خسارة هنا فنحن الخاسرون لأننا، لقرون خلت درسنا فيها اللاهوت، كثيراً ما ضيّقنا على أنفسنا في ما اعتبرناه طرق البحث اللاهوتي، كما لم نفطن للقول المأثور الذي تفوّه به أحد صغار معاصري القدّيس أفرام، أفاغريوس، الذي كان قدّيسنا ليوافقه الرأي عن طيب خاطر لمّا قال: "إذا كنت لاهوتيّاً فستصلّي بحق، وإذا صليّت بحق فأنت لاهوتيّ". على هذا لا نستغربنّ إذا ما وجدنا لاهوتاً جيّداً في شاعر كأفرام لأنه درج بوضوح على "الصلاة بحقّ".
موقف القدّيس أفرام هو بمثابة ترياق طالما احتجنا إليه، ترياق لذلك النهج الذي انشغل اللاهوتيّون، في إطاره، بالتحديدات اللاهوتيّة، horoi باليونانيّة، أي الحدود. بالنسبة لأفرام، ليست التحديدات اللاهوتيّة خطرة، من حيث الإمكان، وحسب، بل يمكنها أن تكون تجديفاً أيضاً. بإمكانها أن تكون خطرة لأنّها إذا ما وفّرت حدوداً معيّنة، فقد يكون لهذه االحدود تأثير قتّال ومفعول تحجيري fossilizing في فهم الناس لموضوع البحث الذي ليس، في نهاية المطاف، سوى الخبرة الإنسانيّة لله. كذلك بإمكان التحديدات العقديّة، في رأي، أفرام، أن تكون، عمليّاً، بعض تجديف لأنّها تمسّ سمة من سمات الكيان الإلهي. فإذ يحاول المرء أن "يحدّد" الله يكون، فعليّاً، قد سعى إلى احتواء من لا يُحتوى، وأن يَحدَّ من لا يُحدّ.
ولمّا كان أفرام قد عاش في زمنٍ كانت النظرة فيه إلى الآريوسيّة، بمختلف أشكالها، أنها مصدر أولي للخطر على الكنيسة، فإنّ الكثير مما أثاره أفرام حول الموضوع يركّز على ولادة الابن أزليّاً من الآب. فالذين جعلوا هذه الولادة داخل الزمن، وبالتالي لجهتنا نحن من الهوّة الكيانيّة القائمة بين الخالق والمخلوق، أمكنهم أن يعالجوا الموضوع باعتبار أن العقل البشريّ المخلوق قادر على التحقيق فيه. بالنسبة لأفرام، وللأرثوذكس بعامة، هذا تجديفٌ مزدوج: فإنّ الأفرقاء الآريوسيين لم يجعلوا الإبن في الجهة المغلوطة من الهوّة الكيانية وحسب، بل انساقوا، بفعل هذا الضلال الأصلي، إلى محاولة التحديد العقلاني لولادة الابن من الآب.
ولكن إذا ما بدت "التحديدات" الإيمانيّة وكأنّها تحصر الله الذي لا يُحدّ، ضمن حدود معيّنة، فكيف يجب على اللاهوتيّ أن يطرح الموضوع؟ إنّ البحث عن تحديدات لاهوتيّة- وهذا ميراث أُخذ عن الفلسفة اليونانيّة- ليس، بحال، السبيل الوحيد للاستطلاع اللاهوتي. فموقف أفرام، المغاير تماماً لهذا الموقف، يعتمد التخالف Paradox والرمزيّة أسلوباً. لذا يبدو الشعر كأداة أوفق من النثر، من حيث أن الشعر أكثر قابليّة على حفظ الديناميّة الأساسيّة والانسياب اللذين يميّزان هذا الموقف اللاهوتيّ.
كيف لا يتحرّك لاهوت التخالف؟ لتمثيل التباين، بطريقة بسيطة، بين ما يمكن تسميته الموقف الفلسفي من اللاهوت، بما في ذلك بحثه عن التحديدات، والموقف الرمزيّ، بإمكان المرء أن يتصوّر دائرة ونقطة في مركز الدائرة تمثّل السمة الإلهيّة موضع البحث. فالموقف الفلسفيّ يهتمّ بإبراز هويّة هذه النقطة ومكانها، بكلام آخر بتحديدها، بإقامة حدود لها. هذا فيما لا يسعى الموقف الرمزيّ إلى شيء من هذا. بالأحرى يمدّنا بسلسة من الأزواج Pairs المتخالفة، واضعاً إيّاها في نقاط متقابلة على خطّ الدائرة. هذا فيما تُترك النقطة المركزيّة من دون تحديد، لكنّ بعضاً من طبيعتها وحركاتها يُستَخلصُ عبر وصل النقاط المتقابلة والتخالفات المتباينة على خط الدائرة. النهج الأوّل يبدو وكأنّه يوفّر فهماً جامداً للنقطة المركزيّة، فيما يعرض لها النهج الأخير فهماً ديناميّاً بصورة أساسيّة.
بين أفضل ما لأفرام من التخالفات Paradoxes كلامه على التجسّد، كمثل المقولات التالية: "العظيم الذي أضحى وضيعاً" . "الغني الذي أضحى فقيراً". "المخفيّ الذي أعلن عن نفسه". دونك مثلاً كيف يحاول أن ينقل بعضاً من سرّ ولادة الكلمة الإلهي من مريم: (أفرام يوجّه كلامه إلى المسيح أوّلاً)
أمّك علّة تعجّب: ولجها السيّد فأضحى عبداً؛ ذاك الذي هو الكلمة دخل فلزم الصمت في داخلها؛ الرعد دخل فيها فلمّا يحدث ضجّة؛ إلى هناك دخل راعي الجميع فأضحى فيها حملاً ثغا لما خرج منها.
حشا أمّك قَلَبَ الأدوار:
فمؤسس الكلّ دخل بكلّ غناه
لكنّه خرج فقيراً؛ المُمجًّد ولجها
لكنّه خرج وديعاً؛ البهيّ حلّ فيها
لكنه طلع منها لابسًا حلة وضيعة.
القدير دخل فلبس انعدام الأمان من حشاها.
مموّن الجميع دخل فاختبر الجوع؛ ذاك الذي يسقي الجميع دخل فاختبر العطش؛ عـريانًا مجردًا أتى منها ذاك الذي يستـر عري الجميع. (الميلاد 6:11-
بعض المفاهيم والموضوعات الأساسية
في كتابات أفرام يلقى المرء عددًا من المفاهيم الأساسية والموضوعات المتكررة التي نحتاج لأن نكون على بيّنة من البعض منها منذ البدء لأنها بمثابة مبادئ للغته اللاهوتية