تفسير الكتاب المقدّس
ما سمح الله بقوله عن نفسه في الكتاب المقدّس هو، بالنسبة لأفرام، مصدر أوّلي لأي معرفة بشريّة له. فأسماء الله ومختلف النماذج Types والرموز في الكتاب المقدّس تشكّل نقاط تلاقٍ بين الله والبشريّة: الله في تنازله الإلهي انحدر إلى مستوى الفهم البشريّ. من جهة بشريّة، إذا ما كانت الفائدة لتُجنى من هذه الفرصة المعروضة علينا من الله تعريفاً عن نفسه، فثمّة أمران أساسيّان لدينا، كما أشرنا: أوّلاً أن لا نجحد النعمة ونأخذ الأسماء والاستعارات المستعملة لله في الكتاب المقدّس على حرفيتها، وثانياً أن على القارئ أن يلتزم موقف المتقبّل والمنفتح. فلو تعاطى الكتاب المقدّس من منطلق خاطئ، أو استناداً إلى تصوّراته الخاصّة، فإنّه إذ ذاك لا يخيب عن معرفة الله في الكتاب المقدّس وحسب، ولكنْ يمكنه، عمليّاً، أن يقع في الضلال.
من الممكن القول أن للكتاب المقدّس معنى خارجيّاً ومعنى داخليّاً، وفيما يمتّ الخارجيّ إلى نطاق ما يمكن تسميته بالواقع التاريخيّ، يمتّ الداخليّ إلى الواقع الروحي. كِلا المعنيين يتعايش والآخر، على غرار الناسوت واللاهوت في المسيح المتجسّد. إنّ التوازي الذي يراه أفرام بين تجسُّديّ الإله، الأوّل في لغة الناس حين "لبس الأسماء" في الكتاب المقدّس، ثمّ تجسُّد ابن الله بحد ذاته، هذا التوازي يُلقي ضوءاً على فهمنا للكتاب المقدّس وعلى الحاجة التي يراها أفرام في تفسيره لضرورة توفّر الإيمان. ففي غياب الإيمان، يبقى يسوع الناصريّ مجرّد وجهٍ تاريخيّ. إنسانيته، للرائي، هي كلّ ما هو منظور. فقط عندما ينظر الرائي بالعين الداخليّة للإيمان يستبين لاهوت المسيح. كذلك الأمر بالنسبة للكتاب المقدّس. فحيث لا تكون هناك عين داخليّة للإيمان، يكون المستبين هو المعنى الخارجيّ التاريخي للكتاب المقدّس – أي ما يدعوه الآباء بعامّة "الحرف". هذا هو منظور الدراسة الكتابيّة العلميّة الأكاديميّة. وعلى قدر ما نما فرع المعرفة هذا في القرن الماضي، ازداد هذا المنظور التاريخيّ انتظاماً. بالنسبة لأفرام هذا المنظور غير كافٍ لأنّه يختصّ بالواقع التاريخيّ وحسب. فكما أن عين الإيمان، وحدها، قادرة على التحرّك من الشخص التاريخيّ ليسوع المسيح المتجسّد، كذلك بالنسبة للكتاب المقدّس، فقط عين الإيمان تقدر أن تدخل إلى داخل لتكتشف شيئاً من المعنى الداخليّ، من الواقع الروحي:
الكتاب المقدّس مبسوط كمرآة،
ومن كانت عينه صافية رأى فيه صورة الحقّ (الإيمان 8:67).
من الطبيعي لأفرام، كلاهوتيّ، أن يهتمّ أوّلاً بالولوج إلى المعنى الداخلي للكتاب المقدّس. هذا مستوى غير قابل للاستطلاع إلاّ بالتمييز (Purshana) وبعين الإيمان الداخليّة هذه. أفرام يؤكّد، في الحقيقة، أن التوقّف عند التصريحات البرّانيّة للكتاب المقدّس عن الله والتعاطي معها بحرفيتها عمليّة خطرة. هنا تكمن الخطورة في أنّ هذه التصريحات تؤول إلى مفاهيم خاطئة بشأن طبيعة الله. وهي، في آنٍ معاً،علامة جحود كبير وإساءة فهم لتنازل الله بسماحه للناس أن يتحدّثوا عنه بلغتهم:
إذا ما اكتفى أحد الناس بتركيز انتباهه
على الاستعارات المستعملة بشأن عظمة الله،
فإنّه يسيء إلى هذه العظمة ويمثّلها
تمثيلاً خاطئاً من خلال استعارات
لبسها الله لمنفعة البشريّة،
ويجحد تلك النعمة
التي أحنت قامتها إلى مستوى الطفولة البشريّة،
مع أنّه ليس بين الله وبينها أي شيء مشترك
فهو لبس شبه البشريّة
ليأتي بالبشريّة إلى مثاله (الفردوس 6:11).
ولا نظنّن أن أفرام لا يبالي، أو لا يعير اهتماماً المعنى التاريخي الخارجي للكتاب المقدّس: هذا المعنى الخارجيّ له عنده وظيفة مهمّة على غرار إنسانيّة المسيح. فالمعنى التاريخيّ الخارجيّ والمعنى الروحيّ الداخلي للكتاب المقدّس متداخلان بصورة حميمة ومترابطان كمثل حال الجسد والنفس في الإنسان وكمثل الناسوت واللاهوت في المسيح. المهمّ بالنسبة لأفرام هو الفهم الموافق للعلاقة الداخليّة وكذلك التفاعل القائم بين هذا وذاك. أن ننكر قيمة الواحد ونكتفي بالتركيز على الآخر خطر وضلال في أيّ اتجاهٍ كان. من هنا إنّ صراع أفرام واليهود كان أنّهم نظروا إلى ناسوت يسوع وحسب وإلى المعنى الخارجيّ للكتاب المقدّس فقط وأنّهم رفضوا أن يلِجوا المعنى الداخلي، الأمر الذي لو حدث لقادهم إلى الإيمان بالمسيح:
خزي اليهود
لأنهم فشلوا في دراسة
السبب الذي من أجله كانت الشريعة ولم يجدوه.
في المقابل ذوّبوا معنى الوصايا
وتسلّحوا به،
مكتسين، بلا فهم،
بأصوات الكلمات،
لأنهم لم يتعبوا ليجنوا
آتون الفكر الذي به يستطيعون
أن يمحّصوا الحقيقة والمعنى الأصيل
للكتاب المقدّس (الهرطقات 4:50).
يدرك أفرام بوضوح أن هناك فرقاً كبيراً بين طبيعة التفسير الخارجي التاريخي والتفسير الداخلي الروحي للكتاب المقدّس. الأوّل المحدود بدائرة الخليقة له نهاية. التفسيرات، أقلّه نظريّاً، يمكن تحديدها والقطع بشأنها. فيما التفسير الروحي للكتاب المقدّس يعمل على أساس مجموعة أخرى من القواعد، ويمتاز، أساسيّاً، بالمرونة، وعدد التفسيرات فيه لا يمكن تحديده بصورة نهائيّة. فالأسماء التي لبسها الله في الكتاب المقدّس، وكذلك الرموز والنماذج Types الموجودة في كلّ مكان في الطبيعة والكتاب المقدّس بآن، ما هي سوى نوافذ، أو قلّ مجرّد نقور يمكن التطلّع من خلالها إلى الحقيقة. أوّلاً لكي يرى المرء من خلال هذه النقور فإنّ الشرط الأساسي هو النظر بعين الإيمان، وحيثما وُجدَ فإنّه يعمل بطرقٍ مختلفة باعتبار الأشخاص أنفسهم، أو حتّى بطرق مختلفة بالنسبة للشخص الواحد في أوقات مختلفة. الإنسان الذي تكون عينه الداخليّة "مظلمة" لا يرى الكثير في الكتاب المقدّس، ولكن من كانت عينه "نقيّة صافية" فإنّه يعاين الكثير: "كلّ واحد بمقدار التمييز لديه يدرك الإله العظيم الذي هو فوق الجميع" (الميلاد 200:4).
على هذا النحو، يكون الغنى الهائل للحقّ أو قل الواقع الروحي لعين الإيمان متى حدَّقتَ في الكتاب المقدّس الذي لا يستطيع أحد أن يحتوي كلّ شيء فيه. ثمّة ما لا يحدّ من "التفاسير" التي هي وصف لممل يمكن أن تعاينه العين الداخليّة:
لو كان هناك معنى واحد لكلمات
الكتاب المقدّس لاكتشَفَهُ
أوّل معلّق، ولمّا تسنّى للسامعين الآخرين
أن يختبروا لا تعب البحث ولا فرح الاكتشاف.
بالأحرى، كلّ كلمة من كلمات الرب لها صيغتها
ولكلّ صيغة مقوِّماتها، ولكلّ مقوِّم ميزته.
فكلّ فرد يستوعب بمقدار طاقته ويفسِّر
بمقدار ما يُعطى له (التعليق على الدياتيسيرون 22:7).
ليس الموضوع موضوع تفسير صحيح وآخر مغلوط كما هي الحال في التفسير التاريخي. بالأحرى، التفسير يكون سارياً بقدر ما يكون له معنى بالنسبة لشخص معيّن في وقتٍ معيّن. الخطأ يدخل في الصورة حين يدّعي إنسان ما أنّ تفسيره الروحي هو الوحيد الممكن، أو أنّ المعنَيَين الداخلي والخارجي لفقرة ما لا تنسجمان إحداهما مع الأخرى. هذا حتماً ليس واقع الحال، فكلا النمطَين في التفسير، التاريخي الذي يتعاطى المعنى الخارجي، والروحي الذي يتعاطى المعنى الداخلي، صيغة فريدة للواقع أو "الحقيقة"، والحقيقة الواحدة أو الواقع الواحد لا يلغي الآخر. كلا الصيغتين تتعايش والأخرى بيسر.
أفرام، لأسباب واضحة، لا يهتمّ إلاّ نادراً بالتفسير التاريخي، وحيثما كان له دور يلعبه على هذا الصعيد فما يفضي به ليس مرضيّاً تماماً قياساً بالتقنيّات المتطوّرة للتفسير التاريخي كما نمت على امتداد القرن الفائت. ولكن حيثما كان اهتمامه الأساسي المعاني الداخليّة، الروحيّة، للكتاب المقدّس، وهذا هو قطب اهتمامه في العادة، فإنّ تبصّراته لا تزال قابلة لأن تدهش القارئ العصريّ لأنها تنطوي على عمق كبير.
في هذا المقطع، استخلصتُ ما بدا لي أنّه جوهر فهم أفرام للكتاب المقدّس وتفسيره، والآن حان الوقت لتركِه يتحدّث عن الأمر بنفسه. في هذه الفقرة عن تعدّد المعاني الداخليّة للكتاب المقدّس، يبدأ أفرام بتوجيه كلامه إلى المسيح:
من يقدر أن يستوعب مدى ما يمكن
اكتشافه في قولة واحدة من أقوالك، ربّي؟
فإننا نخلّف فيها أكثر بكثير مما نأخذ منها
كالعطاش يرتشفون من النبع.
واجهات كلمة الرب أكثر بما لا يقاس
من وجوه أولئك الذين يتعلّمون منها. لقد أسبغ
الله على كلمته جمالات شتّى ليتسنّى لكلّ مَن
يتعلّم منها أن يتفحص تلك المزيّة التي تعجبه.
والله أخفى في لبّ كلمته كلّ أنواع الكنوز
ليتيسّر لكلّ منا أن يغتني بها، كائنة
ما كانت الوجهة التي يتأمّل فيها. فإنّ كلمة الله
شجرة حياة تعرض عليك من كلّ صوب
ثماراً مباركة. وهي كمثل الصخرة التي
ضُربت في البريّة وصارت شراباً روحيّاً
لكلّ واحد من هذه الجهة وتلك: "أكلوا
طعاماً روحيّاً وشربوا شراباً روحيّاً".
على كلّ من خاض الكتاب المقدّس ألاّ يظنّ
أن ما اكتشفه من غنى هو كلّ الموجود، بالأحرى
أن يدرك أنه قابل لاكتشاف القليل
من الغنى الكثير الموجود فيه.
ولا لأنّ الكتاب المقدّس كان غنى للقارئ
فالقارئ يفقره. بالأحرى، إذا لم يكن بمقدور القارئ
أن يجد المزيد فليعترف برحابة الكتاب المقدّس.
إفرح لأنّك وجدت ما في وسعك
ولا تحزن لأنّ شيئاً بقي عنك.
الإنسان العطشان يفرح لأنّه شرب
ولا يحزن لأنّه لم يتمكّن من شرب النبع إلى الأخير.
ليُطفىء النبع عطشك. لا يطفئنّ عطشك النبع!
إذا انطفأ عطشك ولمّا ينقص النبع،
أمكنك أن تشرب ثانية متى عطشت.
ولكن إذا نشف النبع بعدما تملأتَ، فإنّ انتصارك عليه
يكون ضرراً لك. اشكر على ما جنيت
ولا تتذمّر بشأن الفيض الباقي. ما أخذته صار حصّة لك،
وما خلّفته وراءك يمكن أن يكون ميراثك (التعليق على الدياتيسيرون 18:1-19).