أوضح هانس كونج
نظرته اللاهوتية إلى سرّ الثالوث الأقدس في آخر كتابين له: "هوّية المسيحيّ"، الذي نشر بالألمانية سنة 1974، وترجم إلى الفرنسيّة سنة 1978، و "أموجود الله؟" الذي نشر بالألمانيّة سنة 1978، وترجم إلى الفرنسية سنة 1981.
وقد أثار الكتابان ضجة كبرى في الأوساط الكاثوليكية، بسبب مواقف المؤلف المتطرّفة، لا سيّما في تفسيره لألوهيّة المسيح. وهذا الموضوع يمتّ بصلة وثيقة إلى موضوع الثالوث الأقدس. لذلك سنوجز فكرته في هذين الموضوعين اللذين يحاول أن يعبّر من خلالهما عن العقيدة المسيحية بطريقة تتلاءم وعقليّة الإنسان المعاصر.
ء) ألوهيّة المسيح
عن ألوهيّة المسيح، يعتبر كونج أولا ان الإله واحد. لذلك لا يمكن أن يكون "ابن الله" الذي تجسّد في يسوع المسيحٍ إلهاً آخر إلى جانب الله، كما تقول الآريوسية. ويرفض من ناحية أخرى الشكلانيّة، مؤكّدا أنّ "ابن الله" ليس مجرّد شكل لله، بل هو كائن متميّز عنه، وإن ارتبط به ارتباطاً وثيقاً في علاقة فريدة لا نجدها عند أيّ من الناس.
وتلك العلاقة الفريدة بين يسوع الناصريّ والله، يراها كونج في الوحي، ويصوغها على النحو التالي: إن يسوع الناصريّ، الإنسان الحقيقي، هو، للمؤمن، الوَحي الصحيح للإله الحقيقيّ الأوحد". وتتضمّن هذه العبارة كلّ ما جاء في العهد الجديد عن الوحدة بين الآب والابن، كما في الأقوال التالية ليسوع: "الآب يعرفني، وأنا أعرف الآب" (يو 10: 15)، "إنّ الآب فيّ، وأنا في الآب" (يو10: 38)، "أنا والآب واحد" (يو10: 30)، "من رآني فقد رأى الآب" (يو 14: 9).
في هذه التصريحات لا يرى كونج أيّ تأكيد ما ورائيّ حول كيان الله، بل مجرّد تعبير عن شخص يسوع ودوره بالنسبة إلى الله وبالنسبة إلينا. يقول كونج:
"ففي عمل يسوع وفي شخصه يأتي الله لملاقاتنا ويتجلّى تجلّياً محسوساً، ليس للمراقب المحايدة بل للإنسان الذي يؤمن بيسوع ويسلّم له ذاته بثقة. فني يسوع إذاً يظهر الله على حقيقته. وفي يسوع يُظهر الله، على نحوٍ ما، وجهَه... لذلك يمكننا أن ندعو يسوع وجه الله، أو حسب قول العهد الجديد ذاته، "صورة الله" (كو 1: 15). وهذا معنى عبارتي "كلمة الله" و"ابن الله". فهذه التعابير هي صور لا تعني سوى العلاقة الفريدة التي تربط يسوع بالآب وبالبشر: إنّ عمل يسوع وأهميّة شأنه يقومان على أنَه هو وحي الله لأجل خلاص العالم"
أمّا عن وجود ابن الله منذ الأزل مع الله قل التجسّد فيقول كونج إنّه أمر يصعب اليوم قبوله. انه مجرّد انعكاس في اللاهوت المسيحيّ لاعتقادات يهوديّة في وجود الحكمة الإلهية والتوراة، كلام الله، منذ الأزل مع الله. إن تفكير العهد الجديد قد انتقل من الآخر إلى الأوّل، من النهاية إلى البداية. فإذا كان يسوع المصلوب الذي أقامه الله هو هدف التاريخ ونهايته، فلا بدّ أن يكون منذ البداية ومنذ الأزل مع الله. فالآخر هو أيضاً الأوّل.
ويضيف أنّ تلك التصوّرات لا تعني لنا اليوم سوى التأكيد على "أن العلاقة بين الله ويسوع لم تنشأ عن طريق الصدفة، بل هي من المعطيات الأوليّة، وأساسها في الله نفسه". ذلك "أنّ الله هو منذ الأزل، وسيبقى إلى الأبد، كما أوحى بذاته في يسوع".
أمّا عن المجامع المسكونيّة، فيرى كونج أنّ مجمع نيقية (325)، في رفضه نظرّية آريوس، وإعلانه أنّ يسوع هو "من ذات جوهر الآب"، أراد التأكيد على أن يسوع ليس إلهاً آخر إلى جانب الله، ولا إلهاً بين الله والإنسان. بل إنّ الله الواحد الحقيقيّ قد ظهر ظهوراً حقيقياً في شخص يسوع. وهذا أيضاً معنى تصريح مجمع خلقيدونية (451) أنّ يسوع هو إله حقيقيّ وإنسان حقيقيّ. وهذا التصريح يجب تأكيده اليوم أيضاً، بمعنى أنه لا يمكننا القول إن يسوع هو "إله وحسب"، ولا إنّه "إنسان وحسب". بل هو في آنٍ معاً إله وإنسان.
لكن كونج يفسّر ألوهية المسيح في منظار وظيفيّ، لا في منظار ماورائيّ. أي إنّ الله قد تكلّم وعمل وأوحى ذاته الوحي النهائيّ في شخص يسوع وعمل يسوع. فيسوع هو موفد الله ووكيله وممثّله ونائبه، وقد أثبت الله دور يسوع هذا عندما أقامه من بين الأموات. وكل التصريحات حول البنوّة الإلهية ووجود ابن الله منذ الأزل ووساطته في الخلق وتجسّده، إنّما هي وليدة فكر أسطوري، ولا تهدف إلاّ إلى إعلان الصفة الفريدة التي يتمتّع بها يسوع في دعوته وتطلباته، والتأكيد على أنّ تلك الدعوة والتطلّبات لم تأتِ من مصدر بشريّ بل من مصدر إلهيّ.
لذلك يقول كونج إنه لا يرفض أي شيء ممّا أعلنته المجامع المسكونية في موضوع ألوهية المسيح، ولكنّه يضيف أنّه يجب التعبير عن تلك التعاليم في إطار مفاهيمنا وثقافتنا المعاصرة.
ويعود في كتابه "أموجود الله؟" إلى الموضوع نفسه، فيقول:
"إنّ القول بأن الله صار إنساناً في يسوع يعني الأمر التالي: إنّ كلام الله وإرادة الله قد اتّخذا وجهاً إنسانياً في جميع أقوال يسوع، وكرازته، ومسلكه ومصيره. إن يسوع، في أقواله وأعماله، في آلامه وموته، وفي شخصه كلّه، قد أعلن وأظهر وأوحى كلام الله وإرادته: ففيه يتطابق تمام المطابقة الكلام والفعل، التعليم والحياة، الكيان والعمل. إنه جسدياً، في وجه بشريّ، كلمة الله وإرادة الله وابن الله"
وهذا هو المعنى الأخير للتعابير الكتابيّة التي تتكلّم عن ألوهيّة المسيح، ولا سيما في انجيل يوحنا (1: 1- 14، 5: 17- 18، 10: 33- 38، 19: 7). كما أنّ هذا هو ما نعنيه اليوم، عندما نعلن في قانون إيمان نيقية أنّ يسوع المسيح هو "ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، من ذات جوهر الآب". لذلك يعود كونج فيوجز إيمانه بقوله: "إنّ الإنسان الحقيقيّ يسوع الناصريّ هو، للمؤمنين، الوحي الفعلي للإله الحقيقيّ الأوحد، وفي هذا المعنى هو ابن الله وكلمته".
ثم يضيف: إنّ كل التصريحات التي نقرأها في إنجيل يوحنا عن ألوهيّة المسيح تجد معناها في هذا القول المقتضب والأساسي: "ان الله نفسه يظهر ذاته ظهوراً فريداً ونهائياً في شخص يسوع وفي عمله".
ثم يسأل نفسه: "ماذا يعني اليوم كل هذا بالنسبة لي أنا؟". ويجيب: ان كل ما اكتشفه الفلاسفة عن الله وكل ما اعتقدت به الديانات لا يعطيني الصورة الحقيقية الواضحة عن الله. تلك الصورة لا يمكننا أن نجدها إلاّ في الكتاب المقدّس: أولاً في العهد القديم، وبشكل نهائيّ في العهد الجديد في شخص يسوع وعمله وموته. يقول كونج:
"حيث يسوع، هناك أيضاً الله، فهو الذي يعرّفنى إرادة الله. حيث يتكلّم يسوع ويعمل، هناك أيضاً الله إلى جانبه. وحيث يتألم ويموت، هناك أيضاً الله حاضر حضوراً خفيًّا. لذلك أستطيع أن أدعوه وجه الله وصورته، وأيضاً كلمة الله وابنه... بالنسبة لي يسوع الناصري هو ابن الله... ففيه ظهر كلام الله وعمل الله ظهوراً نهائياً. لذلك هو بالنسبة إليّ مسيح الله، ووحيه، وصورته، وكلمته، وابنه. إنّه هو الابن الوحيد لله، ولا أحد سواه".
هكذا ينظر كونج إلى يسوع المسيح ابن الله نظرة خلاصية، وليس نظرة مما ورائيّة وكيانية. إنّ كيان ابن الله يقتصر، في نظره، على عمله الخلاصىّ بالنسبة إلى الإنسان، فهو الله للإنسان وهو كلمة الله للإنسان، وهو صورة الله التي يبحث عنها الإنسان منذ القديم وفي جميع الديانات والفلسفات، والتي لا يمكنه أن يراها إلاّ في المسيح. وبهذا فقط هو ابن الله.
تلك هي النقطة الأساسية التي رأت السلطة التعليميّة في الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ هانس كونج قد حاد فيها عن تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة التقليديّ وعن تعليم المجامع المسكونيّة وعن تعليم العهد الجديد ذاته. فحسب تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، يسوع المسيح هو ابن الله لجأ فقط لأنّه يوحي الله، بل أيضاً لأن ابن الله الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، الكائن منذ الأزل مع الله وفي الله، هو نفسه قد أخذ جسداً من مريم العذراء، وصار إنساناً دون أن يفقد شيئاً من ألوهيّته. فهانس كونج يفسّر وجود ابن الله منذ الأزل بقوله إنه مجرّد تعبير لا يعني سوى أنّ الله الموجود منذ الأزل قد أوحى لنا ذاته في يسوع الإنسان الوحي الكبير.
في هذا الموضوع يؤكّد كارل راهنر بدوره ضرورة القول بوجود ابن الله منذ الأزل قبل التجسّد في الله. ويؤيّد قوله استنادًا إلى الإيمان بأن يسوع هو وحي الله ذاته، وإلى مبدإه اللاهوتيّ القائل إنّ الله قد ظهر لنا في يسوع المسيح كما هو في ذاته. فمن ظهوره لنا كلمة الله نستنتج انه موجود في الله منذ الأزل ككلمة الله والأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس.