التغير المفاجئ في المناخ(*)
إن تدهور درجات الحرارة بمقدار ست درجات مئوية (سيليزية) والجفاف المفاجئ الذي يحرق
الأراضي الزراعية في أنحاء شتى من الكرة الأرضية ليسا مجرد مادة لأفلام الرعب. فمثل هذه
التغيرات المناخية المثيرة حدثت من قبل، وفي بعض الأحيان دامت عدة سنوات.
<B.R. ألي>
في فيلم الإثارة «يوم ما بعد غد» الذي أنتجته هوليوود، تجتاح العالم على حين غرة كارثة مناخية بحجم العصر الجليدي. يهرب ملايين السكان من أمريكا الشمالية إلى المكسيك المشمسة، في حين تتربص الذئاب بالقلة الباقية من الناس الرابضين في مدينة نيويورك التي ضربها جو جاف متجمد. كما تدمر الأعاصير القمعية ولاية كاليفورنيا، وتدك حبات البَرَد العملاقة مدينة طوكيو.
هل يمكن أن تحدث قريبا تغيرات مناخية ساحقة مفاجئة، أم إن استوديوهات فوكس بالغت كثيرا في فيلمها؟ يبدو أن الإجابة عن كلا السؤالين هي نعم. فمعظم الخبراء يتفقون على أنه ما من داع للخوف من حدوث عصر جليدي مكتمل في العقود القادمة. إلا أن تغيرات مناخية كبيرة مفاجئة قد حصلت فعلا عدة مرات في الماضي، ويمكن أن تحدث مرة أخرى. وفي الواقع، ربما يكون حدوثها أمرا لا مناص منه.
ولا مناص أيضا من مواجهة التحديات التي يمكن أن تسببها هذه التغيرات للبشرية. فموجات غير متوقعة من الدفء يمكن أن تجعل بعض المناطق (من الكرة الأرضية) أكثر ملاءمة للعيش، لكنها قد تسبب ظروفا جوية حارقة في مناطق أخرى. كذلك يمكن لفترات مناخية قصيرة باردة أن تجعل فصول الشتاء قارسة تجمد الأطراف وتسد بالجليد المسارات الملاحية الرئيسية. ويمكن أن تحوِّل فترات الجفاف الشديد الأراضي الخصبة إلى أراض جرداء غير صالحة للزراعة. وستكون هذه العواقب قاسية الوقع على البشر، لأن التغيرات المناخية المفاجئة غالبا ما تدوم قرونا عديدة أو حتى آلاف السنين. وفي الواقع فإن انهيار بعض المجتمعات الغابرة، صار يعزى الآن بشكل رئيسي إلى التغيرات السريعة للمناخ، بعد أن كان يُعزى سابقا إلى عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية.
إن شبح التغير المفاجئ للمناخ اجتذب أبحاثا علمية جادة لأكثر من عقد من الزمن، لكنه لم يستأثر باهتمام صانعي الأفلام والاقتصاديين وصانعي السياسات إلا حديثا. وهذا الاهتمام الزائد في الموضوع، رافقه الارتباك المتزايد حول العوامل التي تفعّل مثل هذا التغير وحول نتائجه. وقد يعتبر المراقب العادي أن التغيرات السريعة للمناخ تقلل من آثار الاحترار العالمي الذي يسببه الإنسان، لكن هناك دليلا على أن هذا الاحترار حري أن يبعث القلق أكثر من أي وقت مضى؛ فمن الممكن أن يدفع مناخ الكرة الأرضية إلى تغيرات سريعة مفاجئة.
تقلب المناخ بين الدفء والبرودة(**)
لم يكن للعلماء أن يقيّموا قدرة المناخ على التقلب من حالة إلى أخرى مختلفة كليا لولا عينات الجليد اللبية المجتزأة من الصفحة الجليدية الهائلة في گرينلاند في بداية التسعينات من القرن الماضي. إن هذه الأعمدة الهائلة من الجليد التي يبلغ طولها نحو ثلاثة كيلومترات ـ دَفنت في طبقاتها مجموعة واضحة جدا من السجلات المناخية تغطي ال 000 110سنة الماضية. فالباحثون يستطيعون تمييز طبقات سنوية في هذه العينات اللبية الجليدية، وتأريخها باستعمال طرائق متعددة؛ إذ يكشف تركيب الجليد نفسه عن درجة الحرارة التي تَشكَّل عندها.
لقد كشفت مثل هذه الدراسات عن تاريخ طويل من التقلبات الكبيرة للمناخ ـ فترات تجمّد شديدة وطويلة تتناوب مع فترات دفء قصيرة، حيث تعرضت مناطق گرينلاند الوسطى إلى فترات باردة خاطفة انخفضت فيها درجة الحرارة بمقدار ست درجات مئوية خلال بضع سنوات فقط. في المقابل فإن تسخينها خلال عقد واحد يساوي تقريبا نصف التسخين الذي حصل منذ ذروة العصر الجليدي الأخير ـ أي أكثر من 10 درجات مئوية. إن تلك القفزة (في درجة الحرارة) التي حدثت قبل نحو 11500 سنة، تعادل اكتساب مدينة مينياپوليس أو مدينة موسكو الظروف المناخية الحارة والرطبة نسبيا، لمدينة أتلانتا أو مدينة مدريد.