ماهية المعمودية([1]) والولادة من الله
بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتّضح لنا أن العماد باسم المسيح هو إشهار الإيمان به، أو بالحري الاعتراف الرسمي بالموت معه والقيام معه، وذلك بواسطة النـزول في المعمودية والصعود منها. فقد قال الرسول "مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقمتم أيضاً معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات" (كولوسي 2: 12).
أما الولادة من الله فهي الحصول منه على طبيعة روحية نستطيع بها التوافق معه في صفاته الأدبية السامية إلى الأبد، وذلك بواسطة الإيمان بالمسيح إيماناً حقيقياً([2]). فقد قال الوحي إن كل من يؤمن بالمسيح (إيماناً حقيقياً) فقد ولد من الله (1يوحنا 5:1). ومن ثم فالولادة من الله تختلف عن المعمودية وللإيضاح نتحدث عن النقاط التالية:
أولاً – أدلة على أن حديث المسيح من نيقوديموس خاص بالولادة من الله، وليس بالمعمودية.
1- إن المسيح لم يقل لنيقوديموس إن كان أحد لا يعمّد، بل قال له: إن كان أحد لا يولد. والولادة (أو بالحري الولادة الروحية من الله) تختلف كل الاختلاف عن العماد، وليس من جهة اللفظ فقط، بل ومن جهة المعنى أيضاً كما ذكرنا.
2- إن المسيح لم يقل لنيقوديموس إن كان أحد لا يولد بالماء والروح (باستعمال حرف الجر "ب")، على نسق قول يوحنا لتلاميذه "أن أعمدكم بماء" (متى 3: 11)، بل قال له "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح". وهناك فرق كبير بين حرفي الجر"ب" و "من". فالأول يدلّ على العمل بواسطة خارجية، أما الثاني فيدل على التكوّن من شيء ما([3]). ومن ثم فالأول يتناسب مع العماد، لأن ماء المعمودية يستعمل كواسطة خارجية، أما الثاني فيتناسب مع ولادة النفس بواسطة كلمة الله (المعبر عنها هنا بالماء([4]) والروح القدس معاً، إذ بهذه الولادة تتكون للنفس طبيعة روحية جديدة كما ذكرنا.
3- إن المسيح قال لنيقوديموس عن الطريقة التي تتم بها هذه الولادة:
" الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها. لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من ولد من الروح "ـ وهذه الطريقة لا تنطبق على المعمودية، لأن المرء يمكن أن يعرف كل الترتيبات التي عملت أو تعمل أو ستعمل لعماده أما الولادة من الله فتحدث دون أي ترتيب أو انتظار من أحد، لأنها من أولها إلى آخرها من عمل الله ـ فقد يواظب إنسان على سماع كلمة الخلاص سنوات كثيرة، بل وقد يعظ بها الآخرين مرات متعددة، ومع ذلك لا تتأثّر نفسه بها. بينما قد يسمع غيره هذه الكلمة مصادفةً مرة واحدة، فتنفذ إلى أعماق قلبه بقوة الروح القدس، فيتوب ويتهيأ للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية في العالم الحاضر والآتي معاً.
4- إن المسيح وبّخ نيقوديموس لعدم معرفته بمعنى الولادة من الله (يوحنا 3: 9-12). وبما أن المسيح لا يُوبّخ إنساناً إلاّ إذا كان لا يعرف أمراً سبق الله وأعلنه له، لذلك لا يمكن أن يكون حديث المسيح مع نيقوديموس عن الولادة من الله، خاصاً بالمعمودية المسيحية التي نمارسها الآن، لأن هذه المعمودية لم تؤسس إلاّ بعد موت المسيح وقيامته (متى 28: 19)، إذ أن فيها إشارة إلى هاتين الحقيقتين (كولوسي 2: 12). أما الولادة من الله فكان تعالى قد أعلنها في العهد القديم من قبل . فقد قال "وأرشّ عليكم ماء طاهراً([5])، فتطهرون من كل نجاساتكم، ومن كل أصنامكم أطهركم وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديداً في داخلكم. وأنـزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم([6])، وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها" (حزقيال 36: 24-27)، ولذلك كان قديسو العهد القديم يعرفون هذه الولادة ويتوقون إليها بكل قلوبهم، فقط قال داود النبي (مثلاً) لله "قلباً نقياً أخلق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" (مزمور 51: 10)، ومن ثم كان من المناسب أن يوبّخ المسيح نيقوديموس لجهله إياها.
5- فإذا أضفنا إلى ما تقدم أنه لو كان حديث المسيح مع نيقوديموس خاصاً بالمعمودية، لكان نيقوديموس قد طلب من المسيح أن يعمّده، كما طلب الحبشي من فيلبس المبشّر فيما بعد (الأعمال 5: 26-39)، أو على الأقل لكان قد سأله إن كانت المعمودية التي ذكرها تشبه معمودية يوحنا أو تختلف عنها، اتّضح لنا أن نيقوديموس لا بدّ أدرك أن حديث المسيح خاص بالولادة من الله، وأن هذه الولادة تتم بالإيمان الحقيقي بشخصه كما ذكرنا. ومما يثبت هذه الحقيقة أن المسيح ختم حديثه مع نيقوديموس بالقول "لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 3: 16-21).